فصل: الشاهد السابع والعشرون بعد المائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثالث والعشرون بعد المائة‏:‏

فإن لم تجد من دون عدنان والد *** ودون معد، فلتزعك العواذل

على أن دون بالنصب معطوف على محل الجار والمجرور، أعني من دون ‏.‏ وكذلك أورده سيبويه قال‏:‏ وكأنه قال‏:‏ فإن لم تجد دون عدنان والداً ودون معد‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ شرط العطف على المحل إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح نحو‏:‏ ليس زيد بقائم ولا قاعداً، فإنه يجوز أن تسقط الباء وتنصب، ولا يختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائداً كما في مثل، بدليل‏:‏

فإن لم تجد من دون عدنان والد *** ودون معد، فلتزعك العواذل

وهذا البيت من قصيدة أزيد من خمسين بيتاً للبيد بن ربيعة الصحابي، رضي الله عنه، رثى بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة‏.‏‏.‏ وأولها‏:‏

ألا تسألان المرء ماذا يحاول *** أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل

حبائله مبثوثةٌ في سبيله *** ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل

إذا المرء أسرى ليلةً خال أنه *** قضى عملاً، والمرء ما عاش عامل

فقولا له، إن كان يقسم أمره‏:‏ *** ألما يعظك الدهر أمك هابل

فتعلم أن لا أنت مدرك ما مضى *** ولا أنت مما تحذر النفس وائل

فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب *** لعلك تهديك القرون الأوائل

فإن لم تجد من دون عدنان باقي *** ودون معدٍ فلتزعك العواذل

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم *** بلى كل ذي رأي إلى الله واسل

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل *** وكل نعيمٍ لا محالة زائل‏!‏

وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم *** دويهيةٌ تصفر منه الأنامل‏!‏

وكل امرئٍ يوماً سيعلم سعيه *** إذا كشفت عند الإله الحصائل

قوله‏:‏ ألا تسألان المرء‏.‏‏.‏ البيت ، يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في ماذا ‏.‏

وقوله‏:‏ حبائله مبثوثة‏.‏‏.‏ البيت الحبائل‏:‏ جمع حبالة وهي الشرك؛ والضمير للموت؛ وأراد بحبائله‏:‏ الأحداث التي هي سبب الموت ومبثوثةٌ‏:‏ منصوبةٌ على طرقه‏.‏ والهاء في سبيله عائدة على المرء‏.‏ ويفنى‏:‏ يهرم‏.‏

وسرى وأسرى بمعنى‏.‏ يقول‏:‏ إذا سهر المرء ليلةً في عمل ظن أنه قد فرغ منه، وهو ما عاش يعرض له مثل ذلك، وهو أبداً ما دام حياً لا ينقطع عمله ولا حوائجه‏.‏ وقوله‏:‏ فقولا له إن كان‏.‏‏.‏الخ، أقسم بمعنى قدر؛ يعني قولا له؛ إن كان يدبر أمره وينظر فيه‏:‏ ألم يعظك من مضى قبلك في سالف الدهر، هل رأيته بقي عليه أحد‏؟‏ ثم دعا عليه فقال‏:‏ أمك هابل‏!‏ يقال‏:‏ هبلته أمه، أي‏:‏ ثكلته‏.‏

وقوله‏:‏ فتعلم ، بالنصب جواب ألما‏.‏ وأن مخففة من الثقيلة‏.‏ ووائل‏:‏ من وألت النفس، بمعنى نجت، والموئل‏:‏ المنجى‏.‏

وقوله‏:‏ فإن أنت لم تصدقك‏.‏‏.‏الخ ، يقول‏:‏ إن لم تصدقك نفسك عن هذه الأخبار، بل كذبتك، فانتسب‏:‏ أي‏:‏ قل أين فلان ابن فلان، فإنك لا ترى أحداً بقى؛ لعلك تهديك هذه القرون وترشدك‏.‏ وروي‏:‏ فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب‏.‏

قال أبو علي في إيضاح الشعر‏:‏ أنت مرتفع بفعل في معنى هذا الظاهر، أي‏:‏ فإن لم تنفع‏.‏ ولو حمل أنت على هذا الفعل الظاهر، الذي هو ينفعك، لوجب أن يكون موضع أنت إياك، لأن الكاف الذي سببه مفعولة منصوبة ‏.‏ وهذا أولى من تقدير ابن قاسم في شرح الألفية‏:‏ أن أصله فإن ضللت لم ينفعك‏.‏ وزاد الفارسي على الوجه الثاني‏:‏ أن فيه إنابة الضمير المرفوع عن المنصوب‏.‏ والقرون‏:‏ جمع قرن، وهو أهل زمان واحد‏.‏

وقوله‏:‏ فإن لم تجد تزعك‏:‏ تكفك، قال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد‏:‏ وزعه يزعه، بالفتح، ويزعه بالكسر، وزعاً ووزوعاً‏:‏ إذا كفه‏.‏ وعدنان جده الأعلى، لأن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‏.‏ يقول‏:‏ لم يبق لك أبٌ حي إلى عدنان، فكف عن الطمع في الحياة‏.‏‏.‏ ومعنى البيتين‏:‏ أن غاية الإنسان الموت، فينبغي له أن يتعظ‏:‏ بأن ينسب نفسه إلى عدنان؛ فإن لم يجد من بينه وبينه من الآباء باقيا، فليعلم أنه يصير إلى مصيرهم، فينبغي له أن ينزع عما هو عليه‏.‏ والعواذل هنا حوادث الدهر وزواجره، وإسناد العذل إليها مجاز‏.‏ وقال الطوسي‏:‏ العواذل‏:‏ النساء‏.‏

وقوله‏:‏ أرى الناس‏.‏‏.‏الخ، الواسل‏:‏ الطالب الذي يطلب، من قولك‏.‏ أنت وسيلتي إلى فلان‏.‏ واستشهد به صاحب الكشاف على أن الوسيلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏ ما يتوسل به إلى الله تعالى، من فعل الخيرات واجتناب المعاصي‏.‏ والواسل‏:‏ هو الراغب إلى الله، بمعنى ذو وسيلة، وهو كتامرٍ ولابنٍ‏.‏ وروي‏:‏ اللب وهو العقل، بدل الرأي ‏.‏ والمعنى‏:‏ أرى الناس لا يعرفون ما هم فيه من خطر الدنيا وسرعة زوالها، فالعاقل اللبيب من يتوسل إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح‏.‏

وقوله‏:‏ ألا كل شيء، وقد وقع في بعض الروايات هذا البيت أول القصيدة في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل

وفي رواية لهم‏:‏ أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ‏.‏ وقد روي أيضاً بألفاظ مختلفة، منه‏:‏ إن أصدق كلمة ومنه‏:‏ إن أصدق بيت قالها الشاعر ومنه‏:‏ أصدق بيت قالته الشعراء وكلها في الصحيح ومنها‏.‏ أشعر كلمة قالتها العرب ‏.‏

قال ابن مالك في شرح التسهيل‏:‏ وكلها من وصف المعاني بما يوصف به الأعيان، كقولهم‏:‏ شعرٌ شاعر، ويصاغ منه أفعل باعتبار ذلك المعنى، فيقال‏:‏ شعرك أشعر من شعره‏.‏

وروى ابن إسحاق في مغازيه‏:‏ أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه مر بمجلس من قريش في صدر الإسلام، ولبيد بن ربيعة رضي الله عنه ينشدهم‏:‏

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل

فقال عثمان رضي الله عنه‏:‏ صدقت‏.‏ فقال لبيد‏:‏

وكل نعيمٍ لا محالة زائل

فقال عثمان‏:‏ كذبت، نعيم الجنة لا يزول أبداً‏!‏ فقال لبيد‏:‏ يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم‏؟‏ فقال رجل‏:‏ إن هذا سيفه من سفهائنا قد فارق ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله‏.‏ فرد عليه عثمان، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها، فقال الوليد بن المغيرة لعثمان‏:‏ إن كانت عينك لغنيةً عما أصابها، لم رددت جواري‏!‏ فقال عثمان‏:‏ بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ لمثل ما أصاب أختها في الله، لا حاجة لي في جوارك‏!‏ وروى أحمد بن حنبل في زوائد الزهد‏:‏ أن لبيداً قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقال‏:‏ صدقت‏.‏ قال‏:‏

وكل نعيمٍ لا محالة زائل

فقال‏:‏ كذبت، عند الله نعيمٌ لا يزول‏!‏ فلما ولى قال أبو بكر رضي الله عنه ربما قال الشاعر الكلمة من الحكمة‏!‏ وأخرج السلفي في المشيخة البغدادية من طريق هاشم، عن يعلى عن ابن جراد، قال‏:‏ أنشد لبيدٌ النبي صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل

فقال له‏:‏ صدقت‏!‏ فقال‏:‏ وكل نعيمٍ لا محالة زائل فقال له‏:‏ كذبت، نعيم الآخرة لا يزول‏!‏ وأجاب العيني عن ذلك من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن لبيداً إنما قال ذلك قبل أن يسلم، فيمكن أن يكون في اعتقاده في ذلك الوقت أن الجنة لا وجود لها، وكان يعتقد وجودها ولكن لا يعتقد دوامها، كما ذهبت إليه طائفة من أهل الأهواء والضلال‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يمكن أن يكون أراد به ما سوى الجنة من نعيم الدنيا لأنه كان في صدد ذم الدنيا وبيان سرعة زوالها‏.‏ وأما تكذيب عثمان إياه فلكونه حمل الكلام على العموم‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن حجر في شرح البخاري ، في باب الشعر‏:‏ التعبير بوصف كل شيء بالبطلان تندرج فيه العبادات والطاعات، وهي حقٌ لا محالة؛ وأجيب‏:‏ بأن المراد ما عدا الله، وما عدا صفاته الذاتية والفعلية من رحمة وعذاب؛ والمراد بالبطلان الفناء لا الفساد، وكل شيء سوى الله تعالى جائزٌ عليه الفناء لذاته، حتى الجنة والنار، وإنما يبقيان بإبقاء الله تعالى لهما، وخلق الدوام لأهلهما‏.‏ والحق على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال لذاته‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله للسيوطي، في البدور السافرة ، عند ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه‏}‏‏.‏ أي‏:‏ قابل للهلاك؛ وكل محدث قابل لذلك وإن لم يهلك، بخلاف القديم الأزلي‏.‏ ويؤيد ذلك أن العرش لم يرد خبرٌ أنه يهلك‏.‏ فلتكن الجنة مثله‏.‏

وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب‏:‏ وفي بحر الكلام‏:‏ قال أهل السنة‏:‏ سبعةٌ لا تفنى‏:‏ العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار بأهلهما والأرواح‏.‏ وقال صاحب المفهم شرح مسلم، وكذا البيهقي وغيره من المحدثين‏:‏ إن هذه السبعة يقع لها هلاك نسبي، وهو غشيان يمنع الإحساس، وفناءٌ ما من الأوقات‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر وقوع ذلك، على تقدير صحته، بين النفختين، عند قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ فلا يجيبه أحد كما وردت به الروايات‏.‏ انتهى‏.‏

والباطل هنا الذاهب الزائل، ومعناه‏:‏ الهالك الفاني، أي‏:‏ القابل للهلاك والفناء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الباطل في الأصل ضد الحق، والمراد به هنا الهالك‏.‏ وقال العيني‏:‏ الباطل ضد الحق؛ وفي عرف المتكلمين‏:‏ الباطل، الخارج عن الانتفاع؛ والفاسد يقرب منه، والصحيح‏:‏ ضده ومقابله‏.‏ وفي عرف الشرع‏:‏ الباطل من الأعيان‏:‏ ما فات معناه المقصود المخلوق له من كل وجه، بحيث لم يبقى إلا صورته، ولهذا يذكر في مقابله الحق الذي هو عبارة عن الكائن الثابت؛ وفي الشرع يراد به ما هو المفهوم منه لغة، وهو ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، إما لانعدام محلية التصرف كبيع الميتة والدم، ولانعدام أهلية المتصرف، كبيع المجنون والصبي الذي لا يعقل‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما معناه هنا‏؟‏ قلت‏:‏ المعنى‏:‏ كل شيء سوى الله تعالى زائلٌ فائت مضمحل ليس له دوام‏.‏ انتهى‏.‏ والمحالة بفتح الميم‏:‏ الحيلة، قال الجوهري‏:‏ قولهم لا محالة، أي‏:‏ لابد‏.‏

وقوله‏:‏ وكل أناس سوف تدخل بينهم يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في ماذا ‏.‏

وقوله‏:‏ وكل امرئ يوماً ، سعيه‏:‏ عمله‏.‏ والحصائل‏:‏ الحسنات والسيئات التي بقيت له عند الله تعالى؛ وهو بالحاء والصاد المهملتين‏.‏

ثم شرع بعد هذا في تقلب الدهر بأهله، وبدأ بذكر النعمان وما كان فيه من سعة الملك ونعيم الدنيا، ثم ذكر ملوك الشام آل غسان وما فعل الدهر بهم فبادوا كأن لم يكونوا، فقال‏:‏

ليبك على النعمان شربٌ وقينةٌ *** ومختبطاتٌ كالسعالي أرامل

الشرب‏:‏ جمع شارب، يريد أصحابه الذين كان يشاربهم‏.‏ والقنية‏:‏ الخادم‏.‏ والمختبطات الفرق‏:‏ السائلات المعروف‏.‏ والسعالي‏:‏ الغيلان، شبه السائلات بها، في سوء حالهن وقبحهن‏.‏ والأرامل‏:‏ المحاويج الجياع من أرمل القوم‏:‏ إذا نفذ زادهم وجاعوا‏.‏ وقال في آخر القصيدة‏:‏

فأمسى كأحلام النيام نعيمهم *** وأي نعيمٍ خلته لا يزايل

فظهر بهذا أن هذه القصيدة ليست في مدح النعمان كما زعم من تكلم على هذه الأبيات، بل هي بالرثاء أشبه، لاسيما أوائل القصيدة فإنها تناسب ما قلنا‏.‏ والله أعلم‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في البيت الذي قبل هذا البيت‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والعشرون بعد المائة‏:‏

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

على أن قوله‏:‏ الحديدا معطوف على محل الجار والمجرور وهو قوله‏:‏ بالجبال ، وهو خبر ليس والباء زائدة‏.‏ وكذلك أورده سيبويه‏.‏

وهو عجزٌ وصدره‏:‏

معاوي، إننا بشرٌ فأسجح ومعاوي‏:‏ منادى مرخم معاوية بن أبي سفيان‏.‏ وأسجح بقطع الهمزة وتقديم الجيم على المهملة؛ ومعناه ارفق وسهل‏.‏ وخد أسجح، أي‏:‏ طويل سهل‏.‏

وقد رد المبرد على سيبويه روايته لهذا البيت بالنصب؛ وتبعه جماعةٌ منهم العسكري صاحب التصحيف قال‏:‏ ومما غلط فيه النحويون من الشعر ورووه موافقاً لما أرادوه، ما روي عن سيبويه عندما احتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض‏.‏ وقد غلط على الشاعر، لأن هذه القصيدة مشهورة، وهي مخفوضةٌ كلها‏.‏ وهذا البيت أولها‏.‏ وبعده‏:‏

فهبنا أمةً ذهبت ضياع *** يزيد أميرها وأبو يزيد

أكلتم أرضنا فجردتموه *** فهل من قائمٍ ومن حصيد

أتطمع في الخلود إذا هلكن *** وليس لنا ولا لك من خلود

ذروا خون الخلافة، واستقيموا، *** وتأمير الأراذل والعبيد

وأعطونا السوية لا تزركم *** جنودٌ مردفاتٌ بالجنود

وهذا الشعر لعقيبة بن هبيرة الأسدي؛ شاعرٌ جاهليٌ إسلامي‏.‏ وفد على معاوية ابن أبي سفيان فدفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات، فدعاه معاوية فقال له‏:‏ ما جرأك علي‏؟‏ قال‏:‏ نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك‏!‏ فقال‏:‏ ما أظنك إلا صادقاً‏!‏ فقضى حوائجه‏.‏

ويروى أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري جاء إلى معاوية فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن عقيبة أخا بني أسد هجاني‏؟‏ فقال‏:‏ وما قال لك‏؟‏ قال‏:‏ قال لي‏:‏

فما أنا من حداث أمك بالضحى

فقال له معاوية‏:‏ ليس من حداثها‏!‏ قال‏:‏ وقال لي‏:‏

ولا من يزكيها بظهر مغيب

فقال معاوية‏:‏ لكن الله ورسوله والمهاجرين والأنصار يزكونها؛ وكانت تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ وقال لي‏:‏

وأنت امرؤٌ في الأشعرين مقابل

فقال‏:‏ صدق‏.‏ قال‏:‏ وقال لي‏:‏

وفي البيت والبطحاء حق غريب

فقال‏:‏ صدق، ليس لك في البيت ولا في البطحاء حق‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فندعه على هذا‏؟‏ قال‏:‏ ما قال لي أشد مما قال لك‏.‏‏.‏ وقرأ له الأبيات؛ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، ما تصنع به‏؟‏ قال‏:‏ تعال ندع الله عليه‏.‏ وعقيبة بالقاف يحتمل أن يكون مصغر عقبة كظلمة وهي بقية المرق ونحو ذلك ترد في القدر المستعارة؛ ومصغر العقبة بمعنى النوبة، يقال‏:‏ تمت عقبتك‏.‏ وهما يتعاقبان، أي‏:‏ يتناوبان‏.‏

وقوله‏:‏ فجردتموها ، أي‏:‏ قشرتموها كما يجرد اللحم من العظم وقوله‏:‏ فهل من قائم ، يعني‏:‏ القرى التي أهلكت، منها قائم قد بقيت حيطانه، ومنها حصيد قد أمحى أثره والخون ، بفتح الخاء وسكون الواو‏:‏ مصدر كالخيانة‏.‏ والتأمير‏:‏ تفعيل من الإمارة‏.‏ والسوية‏:‏ المساواة‏:‏ والنصفة‏.‏

ولم أر لعقيبة هذا ذكراً في كتب الصحابة، ولم يذكره ابن حجر أيضاً في الإصابة من المخضرمين‏.‏ والظاهر أنه من المخضرمين‏.‏

وأجاب الزمخشري، تبعاً لما قاله ابن الأنباري في الإنصاف ، بأن هذا البيت روي مع أبيات منصوبة ومع أبيات مجرورة، فمن رواه بالجر روى معه الأبيات المتقدمة، ومن رواه بالنصب روى معه‏:‏

أديروها بني حربٍ عليكم *** ولا ترموا بها الغرض البعيدا

يقول‏:‏ ضموا الخلافة والولاية إليكم، ولا ترموا بها أقصى المرامي، أي‏:‏ لا تطرحوا النظر في أمرنا وتتركونا مع الولاة الذين من قبلكم يجورون علينا‏.‏

وهذا الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدي‏.‏ قالوا‏:‏ وليس ينكر أن يكون بيتٌ من شعرين معاً، لأن الشعراء قد يستعير بعضهم من كلام بعض، وربما أخذ البيت بعينه ولم يغيره كقول الفرزدق‏:‏

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفن *** وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

فإن هذا البيت لجميل بن عبد الله، انتحله الفرزدق‏.‏

وأورد ابن خلف نظير هذا في شرح أبيات الكتاب ما يزيد على مائة بيت‏.‏ ومثل ما نحن فيه قول الأخنس بن شهاب اليشكري‏:‏

إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

والقصيدة مرفوعة القوافي، وأخذه قيس بن الخطيم، وجعله في قصيدة مجرورة القوافي، وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في الظروف‏.‏

وزعم السيرافي‏:‏ أن شعر عقيبة الأسدي يجوز في إنشاد قوافيه الجر والنصب‏.‏ قال اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ وهذا وهم لأن فيها ما يجوز فيه الوجهان عند البصريين، ومنها ما لا يجوز فيه عندهم إلا وجهٌ واحد؛ ولا يجوز أن ينشد بعض القصيدة منصوباً وبعضها مرفوعاً على طريق الإقواء، لأن الإقواء في الغالب إنما يكون بين المرفوع والمجرور لما بينهما من المناسبة؛ فأما مايصح فيه الوجهان فالبيت الأول والثالث والخامس، والنصب فيه عطف على خون الخلافة، ويجوز أن يكون معطوفاً على تأمير الأراذل، على حذف مضاف؛ فأما البيتان الباقيان فلا يصح فيهما النصب على مذهب البصريين، ويجوز على مذهب الكوفيين، لأنهم يجيزون ترك صرف ما ينصرف في الشعر ضرورة‏.‏

ولا يخفى أن الكوفيين إنما يجيزون ترك صرف المنصرف إذا كان علماً، يكتفون بشرط العلة كما هو المشهور، وقدمنا في أول باب ما لا ينصرف ما يغني عن إعادته هنا‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من شعر آخر لعبد الله بن الزبير وهو‏:‏

رمى الحدثان نسوة آل حربٍ *** بمقدار سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيض *** ورد وجوههن البيض سودا

فإنك لو سمعت بكاء هندٍ *** ورملة إذ تصكان الخدودا

سمعت بكاء باكيةٍ حزينٍ *** أبان الدهر واحدها الفقيدا‏!‏

معاوي، إننا بشرٌ فاسجح ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

ولا يخفى أن هذا البيت أجنبي من هذه الأبيات، ويدل عليه‏:‏ أن أبا تمام أنشد هذه الأبيات لمن ذكرنا، في باب المراثي من الحماسة، بون البيت الأخير ولم يذكره أحد من شراحه‏.‏ والحدثان بالتحريك‏:‏ الحادثة، ونائبة الدهر‏.‏ والمقدار‏:‏ ما قدره الله تعالى‏.‏ وفيه قلبٌ، أي‏:‏ رمى تقدير الله نسوة آل حرب بحدثان‏.‏ والسمود‏:‏ تغير الوجه من الحزن‏.‏ وابن الزبير هو عبد الله بن الزبير بن الأشيم بن الأعشى بن بجرة بفتح الموحدة والجيم وينتهي نسبه إلى أسد بن خزيمة‏.‏ والزبير بفتح الزاي وكسر الموحدة‏.‏ وعبد الله شاعر كوفي المنشأ والمنزل‏.‏ وهو من شعراء الدولة الأموية ومن شيعتهم والمتعصب لهم؛ فلما غلب مصعب بن الزبير على الكوفة أتي به أسيراً، فمن عليه ووصله وأحسن إليه؛ فمدحه وأكثر من مدحه وانقطع إليه فلم يزل معه حتى قتل وعمي بعد ذلك، وملت في خلافة عبد الملك بن مروان‏.‏ وكان الحجاج أرسله في بعثٍ إلى الري فمات بها‏.‏ وكان أحد الهجائين، يخاف الناس شره وله حكايات مسطورة في الأغاني ‏.‏

ومن شعره يمدح عمرو بن عثمان بن عفان - وكان رآه عمرو في ثياب رثة فاقترض ثمانية آلاف درهم باثني عشر ألفاً وأرسلها إليه مع رزمة ثياب فقال‏:‏ وهو من أبيات تلخيص المفتاح ‏:‏

سأشكر عمراً إن تراخت منيتي *** أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهرٍ الشكوى إذا النعل زلت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانه *** فكانت قذى عينيه حتى تجلت

ومدح أسماء بن خارجة الفزاري بقصيدة منها‏:‏

تراه إذا ما جئته متهلل *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها، فليتق الله سائله

فأثابه أسماء ثواباً لم يرضه؛ فغضب وقال يهجوه‏:‏

بنت لكم هندٌ بتلذيع بظره *** دكاكين من جصٍّ عليها المجالس

فو الله لولا رهز هندٍ ببظره *** لعد أبوها في اللئام العوابس

فبلغ ذلك أسماء فركب إليه واعتذر إليه من ضيق يده وأرضاه، وجعل له على نفسه وظيفةً في كل سنة‏.‏ فكان بعد ذلك يمدحه ويفضله‏.‏ وكان أسماء يقول لبنيه‏:‏ والله ما رأيت قط جصاً في بناء إلا ذكرت بظر أمكم هند فخجلت‏.‏

وأنشد بعده وهو البيت الخامس والعشرون بعد المائة‏:‏

يسمعها لاهه الكبار

على أنه قيل إنما جاز يا الله للزوم اللام للكلمة، فلا يقال‏:‏ لاهٌ إلا نادراً كما في هذا الشعر‏.‏

وإنما عبر بقيل، لأن أبا علي الفارسي قال‏:‏ أل عوضٌ من الهمزة، إذ أصله إله، ويدل على ذلك‏:‏ استجازتهم لقطع الهمزة في القسم والنداء؛ فلو كانت غير عوض لم تثبت كما لم تثبت في غير هذا الاسم‏.‏ ولا يجوز أن يكون للزوم الحرف، لأن ذلك يوجب أن تقطع همزة الذي والتي‏.‏ ولا يجوز أيضاً أن يكون لأنها همزة مفتوحة وإن كانت موصولة، كما لم يجز في ايم الله وايمن الله‏.‏ ولا يجوز أيضاً أن يكون ذلك لكثرة الاستعمال، لأن ذلك يوجب أن تقطع الهمزة أيضاً في غير هذا مما يكثر استعمالهم له‏.‏ فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصت به، ليس في غيرها‏.‏ ولا شيء أولى بذلك المعنى، من أن يكون للعوض من الحرف المحذوف، الذي هو الفاء ‏.‏

وكون لفظ الجلالة أصله لاه هو أحد قولي سيبويه فيه‏.‏ واختاره المبرد، قال‏:‏ أصله لاه على فعل مثل ضرب، ثم دخلت أل عليه تعظيماً لله عز وجل وإبانة له عن كل مخلوق، فهو اسم وإن كان فيه معنى فعل‏.‏ وأصل لاه‏:‏ لوه وليه‏.‏ قال‏:‏ ولو كان كما ذكر سيبويه‏:‏ أن أصله إلاه، لكان قد حذف فاء الفعل وعينه، لأنه يحذف همزة إله وهي فاء الفعل ثم تذهب العين إذا دخل الألف واللام؛ ولم نر شيئاً يحذف فاؤه وعينه‏.‏

قال السخاوي في سفر السعادة‏:‏ وليس كما يقال، فإن عينه باقية لم تحذف ‏.‏

والعجب من السخاوي حيث نقل عن المبرد بأن قول ابن عباس‏:‏ الله هو الله ذو الألوهية يأله الخلق، وقرأ ابن عباس‏:‏ ويذرك وإلهتك أي‏:‏ وعبادتك، لأنهم كانوا يعبدون فرعون‏.‏ يؤيد القول بكون أصله لاه ولم يتعقبه بشيء‏!‏ مع أنه يؤيد من قال‏:‏ إن أصله إله‏.‏ فتأمل‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ والذي ذهب إليه س‏:‏ من أن أصل هذا الاسم إله، قول يونس والأخفش والكسائي والفراء وقطرب‏.‏ وقال - بعد وفاته - لهؤلاء‏:‏ وجائزٌ أن يكون أصله لاه وأصل لاه ليه على وزن فعل ثم أدخل عليه أل‏.‏ واستدل بقول بعض العرب‏:‏ لهي أبوك، يريدون لاه أبوك‏.‏ قال‏:‏ فتقديره على هذا القول فعل، والوزن وزن باب ودار‏.‏

وأنشد‏.‏‏.‏ لاهه الكبار، وقوله‏:‏ لاه ابن عمك‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ كلام سيبويه‏.‏

وأقول‏:‏ لاه على هذا تام، على وزن جبل، ومن قال لهي أبوك فهو مقلوب من لاه، قدمت لامه التي هي الهاء على عينه التي هي الياء فوزنه فلع، وكان أصله بعد تقديم لامه على عينه للهي، فحذفوا لام الجر ثم لام التعريف، وضمنوه معنى لام التعريف فبنوه؛ كما ضمنوا معناها أمس فوجب بناؤه‏.‏ وحركوا الياء لسكون الهاء قبلها وكانت فتحة لخفتها كلام ابن الشجري‏.‏

أقول‏:‏ البيتان اللذان أوردهما ليسا في كتاب س، وليس في الشعر دليلٌ على أن الله أصله لاه، لجواز أن يكون لاه مخفف إله حذفت الهمزة لضرورة الشعر، بدليل الجمع على آلهة دون ألوهة وأليهة‏.‏

وقال خضر الموصلي‏:‏ استشهد به على أن أصل الله لاه، لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها‏.‏ وفيه نظر، لجواز أن يكون لاه لفظاً مستقلاً برأسه بمعنى إله‏.‏

قال أبو علي، في نقض الهاذور‏:‏ فإن قيل‏:‏ قد قال الشاعر‏:‏ لاهه الكبار لقد أخرج الألف واللام من الاسم وأضافه‏.‏ قيل‏:‏ إن الشاعر لما رأى الألف واللام فيه على حد ما يكون في الصفات التي تغلب، ورأى أن هذه الصفات إذا غلبت صارت كالأعلام، فلا تحتاج إلى حرف التعريف فيها، كما لم يحتج إليها في الأعلام‏.‏

أخرجه على ذلك كما قال الأخر‏:‏

ونابغة الجعدي بالرمل بيته

حيث غلب الوصف فصار يعرف به كما بعرف بالعلم؛ فكذلك الاسم‏.‏ ومع هذا فكأنه رد الاسم، للضرورة، إلى الأصل المرفوض الاستعمال‏.‏ وهذا لا يجوز استعماله سائغاً مطرداً‏.‏

والأزهري أورد هذا الشعر على غير هذه الرواية، قال في التهذيب‏:‏ وقد كثر اللهم في الكلام حتى خففت ميمها في بعض اللغات؛ وأنشدني بعضهم‏:‏

كحلفةٍ من أبي رياح *** يسمعها اللهم الكبار

وإنشاد العامة‏:‏ يسمعها لاهه الكبار‏.‏

وأورده جماعة من النحويين، منهم المرادي في شرح الألفية ‏:‏

يسمعها لاهم الكبار

على أن فيه شذوذين‏:‏ أحدهما استعماله في غير النداء لأنه فاعل يسمعها، والثاني تخفيف ميمه؛ وأصلها التشديد‏.‏

وقال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ روى الأصمعي‏:‏ يسمعها الواحد الكبار ، ورواية غيره لاهه ‏.‏

قال أبو علي في نقض الهاذور‏:‏ وأما قول من قال لاهم الكبار، فالقول فيه‏:‏ أنه بنى من الاسم والصوت اسماً، كما بنى التهليل من هلل، وبأبأ من بأبى، ثم صار اسماً كما صارت هذه الأشياء اسماً، وأصله الصوت‏.‏

والكبار وصفه‏.‏ قال ابن عقيل في شرح التسهيل‏:‏ ومذهب سيبويه والخليل أن اللهم في النداء لا يوصف، لكونه مع الميم كالصوت‏.‏ وأما لاهم الكبار فقيل فيه‏:‏ لما كان غير منادى وصف؛ وقيل رفع على القطع‏.‏ وأبو رياح رجل من بني ضبيعة‏.‏ وهو حصن بن عمرو بن بدر‏.‏ وكان قتل رجلاً من بني سعد بن ثعلبة فسألوه أن يحلف ويعطي الدية فحلف ثم قتل بعد حلفته‏.‏ فضربته العرب مثلاً لما لا يغني من الحلف؛ قاله ابن دريد في شرح ديوان الأعشى ‏.‏ وهو بمثناة تحتية، لا بموحدة كما زعم شراح الشواهد‏.‏

قال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ زعم بعض المصحفين‏:‏ أن الإنسان إذا صحف في مثل هذا لم يكن ملوماً‏.‏ وليس كما قال؛ وهل العيب واللوم إلا على تصحيف الأسماء‏!‏ وليس يعرف في أسماء العرب في الجاهلية رباح بباء تحتها نقطة واحدة إلا في أسماء عبيدها، إلا في اسم رجلين‏:‏ أحدهما رباح بن المغترف بغين معجمة، وآخر‏.‏ وأما قول الأعشى‏:‏ كحلفة من أبي رياح، فهو بياء تحتها نقطتان؛ من بني تيم بن ضبيعة ‏.‏ والكبار بضم الكاف وتخفيف الموحدة‏:‏ صيغة مبالغة الكبير بمعنى العظيم، وهو صفة لاهه ‏.‏ والحلفة بالفتح‏:‏ المرة من الحلف بمعنى القسم‏.‏

وقوله‏:‏ من أبي رياح صفة لحلفة، أي‏:‏ كحلفةٍ صادرةٍ منه‏.‏ وروى بدل يسمعه‏:‏ يشهدها ، والضمير للحلفة، والجملة صفة ثانية لحلفة‏.‏ وقبله‏:‏

أقسمتم حلفاً جهاراً‏:‏ *** إن نحن ما عندنا عرار

وحلف‏:‏ جمع حالف‏.‏ وإن‏:‏ مخففة من الثقيلة‏.‏ وعرار بكسر المهملة‏:‏ اسم رجل‏.‏

والبيتان من قصيدة للأعشى ميمون ذكر فيها من أهلكه الدهر من الجبابرة‏.‏ ومطلعها‏:‏

ألم تروا إرماً وعاد *** أفناهم الليل والنهار‏!‏

وقبلهم غالت المناي *** طمساً فلم ينجها الحذار

وحل بالحي من جديسٍ *** يومٌ من الشر مستطار

وأهل جوٍّ أتت عليهم *** فأفسدت عيشهم فباروا

فصبحتهم من الدواهي *** جائحةٌ عقبها الدمار

ومر دهرٌ على وبارٍ *** فهلكت جهرةً وبار

الرؤية علمية؛ وجملة أفناهم هو المفعول الثاني؛ لا أنها بصرية؛ خلافاً للعيني‏.‏ وروى‏:‏ أودى بها الليل والنهار ، وهو بمعنى أفناهم‏.‏ وإرم بكسر الهمزة، قال البكري، في معجم ما استعجم‏:‏ هو أبو عوص، بالصاد وفتح العين، وعاد‏:‏ ابن عوص؛ وإرم‏:‏ هو ابن سام بن نوح عليه السلام؛ قال الهمداني‏:‏ نزل جيرون بن سعد بن عادٍ دمشق، وبنى مدينتها، فسميت باسمه جيرون‏.‏‏.‏ قال‏:‏ وهي إرم ذات العماد، يقال‏:‏ إن بها أربعمائة ألف عمود من حجارة‏.‏‏.‏ قال‏:‏ وإرم ذات العماد المعروفة بتيه أبين، وبجانب هذا التيه منهل أهل عدن، وبتيه أبين مسكن إرم بن سام بن نوح؛ فلذلك يقال‏:‏ إن إرم ذات العماد فيه‏.‏

واختلف أهل التأويل في معنى إرم فقال بعضهم‏:‏ إرم‏:‏ بلدة؛ وقيل‏:‏ إنها دمشق؛ وقيل هي الإسكندرية؛ وقال مجاهد رحمه الله‏:‏ إرم‏:‏ أمة، وقال غيره‏:‏ من عاد‏.‏ ومعنى ذات العماد على هذا ذات الطول‏.‏ وطسم وجديس‏:‏ قبيلتان من عاد كانوا في الدهر الأول فانقرضوا‏.‏‏.‏ وبيان انقراضهم، كما قال محمد بن حبيب في كتاب المغتالين‏:‏ أن ملك طسم - عمليق ابن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح - تعدى في الظلم والتجبر‏.‏

وأتته يوماً امرأة من جديس اسمها هزيلة، وكان زوجها طلقها وأراد أخذ ولدها منها فقالت‏:‏ أيها الملك، إني حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً، حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله أراد أن يأخذه كرهاً، وأن يتركني من بعده ورهاً‏!‏ فقال لزوجها‏:‏ ما حجتك‏؟‏ قال‏:‏ أيها الملك، إنها قد أعطيت المهر كاملاً، ولم أصب منها طائلاً، إلا وليداً خاملاً؛ فافعل ما كنت فاعلاً‏.‏ فأمر بالغلام أن ينزع منهما جميعاً ويجعل في غلمانه؛ وقال لهزيلة‏:‏ أبغيه ولداً، ولا تنكحي أحداً؛ واجزيه صفدا‏.‏ فقالت هزيلة‏:‏ أما النكاح فإنما يكون بالمهر، وأما السفاح فإنما يكون بالقهر؛ ومالي فيهما من أمر‏!‏ فلما سمع عمليقٌ كلامها أمر أن تباع مع زوجها، فيعطى زوجها خمس ثمنها، وتعطى هزيلة عشر ثمن زوجها، ويسترقا‏.‏

فأنشأت تقول‏:‏

أتينا أخا طسمٍ ليحكم بينن *** فأنفذ حكماً في هزيلة ظالما

لعمري، لقد حكمت لا متورع *** ولا كنت فيما يبرم الحكم عالما

فلما سمع عمليق كلامها أمر أن لا تزوج بكر من جديس فتهدى إلى زوجها إلا يفترعها هو قبل زوجها، فلقوا من ذلك جهداً وذلاً‏.‏ فلم يزل على هذا أربعين سنة حتى زوجت الشموس عميرة بنت غفار الجديسية أخت الأسود الذي وقع إلى جبلي طيئ وسكنوا الجبلين بعده فلما أرادوا أن يهدوها إلى زوجها‏.‏ انطلقوا بها إلى عمليقٍ لينالها قبله، ومعها الفتيات يغنين ويقلن‏.‏

ابدي بعمليقٍ، وقومي واركبي‏!‏ *** وبادري الصبح لأمرٍ معجب

فسوف تلقين الذي لم تطلبي‏!‏ *** وما لبكرٍ عنده من مهرب‏!‏

فلما أدخلت عليه افترعها، وخلى سبيلها‏.‏ فخرجت إلى قومها في دمائها شاقة درعها عن قبلها ودبرها‏!‏ وهي تقول‏:‏

لا أحد أذل من جديس *** أهكذا يفعل بالعروس‏!‏

يرضى بهذا، يا لقومي‏.‏ حر‏!‏ *** أهدى وقد أعطى وسيق المهر

لأخذه الموت كذا لنفسه *** خيرٌ من أن يفعل ذا بعرسه

وقالت تحرض قومها‏:‏

أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم *** وأنتم رجالٌ فيكم عدد النمل‏؟‏

وتصبح تمشي في الدماء صبيحةٌ *** شميسةٌ زفت في النساء إلى البعل

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه *** فكونوا نساءً لا تغب عن الكحل‏!‏

ودونكم طيب العروس، فإنم *** خلقتم لأثواب العروس وللغسل

فلو أننا كنا رجالاً وأنتم *** نساءٌ، لكنا لا نقيم على الذل

فبعداً وسحقاً للذي ليس دافع *** ويختال يمشي بيننا مشية الفحل

فموتوا كرام وأميتوا عدوكم *** ودنوا لنار الحرب بالحطب الجزل

فلما سمع قولها أخوها الأسود - وكان سيداً مطواعاً - قال لقومه‏:‏ يا معشر جديس، إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم وأنتم أذل من النيب، فأطيعوني يكن لكم عز الدهر، وذهاب ذل العمر‏.‏ فقالوا‏:‏ نطيعك، ولكن القوم أكثر منا وأقوى‏.‏ قال‏:‏ فإني أصنع للملك طعاماً ثم أدعوهم إليه، فإذا جاؤوا يرفلون في حللهم مشينا إليهم بالسيوف فقتلناهم، وأنا أنفرد بعمليق، وينفرد كل واحد منكم بجليسه‏!‏ فاتخذ الأسود طعاماً كثيراً، وأمر القوم فاخترطوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، ودعا القوم فجاؤوا، حتى إذا أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم إلى الطعام، أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم فشد الأسود على عمليق، وكل رجل على جليسه‏.‏ فلما فرغوا من قتل الأشراف شدوا على السفلة فأفنوهم، ونجا بعض طسم، فاستغاث بحسان بن تبع فغزا حسان جديساً فقتلها وأخرب ديارهم وتفانى الحيان فلم يبق منهم أحد‏.‏ وجو بفتح الجيم وتشديد الواو، وهي منازل طسم وجديس، وكان هذا الاسم في الجاهلية حتى سماها الحميري لما قتل المرأة التي تسمى اليمامة باسمها وقال الملك الحميري‏:‏

وقلنا وسموها اليمامة باسمه *** وسرنا وقلنا لا نريد إقامة

والعقب ، بضم العين وسكون القاف‏:‏ العاقبة‏.‏ والدمار‏:‏ الهلاك‏.‏ وقوله‏:‏ ومر دهر على وبار‏.‏‏.‏ الخ ، هذا البيت من شواهد النحويين، وأول من استشهد به سيبويه‏:‏ على أن وبار رفع، والمطرد فيما كان آخره راء من وزن فعال أن يبنى على الكسر في لغة الحجاز‏.‏

وأورده شراح الألفية شاهداً على ورود وبار على اللغتين‏:‏ إحداهما البناء على الكسر، والثانية إعرابها إعراب ما لا ينصرف‏.‏ وزعم أبو حيان‏:‏ أنه يحتمل أن يكون وبار الثاني فعلاً ماضياً مسنداً إلى الواو‏.‏ قال الأعلم‏:‏ وبار‏:‏ اسم أمة قديمة من العرب العاربة هلكت وانقطعت كهلاك عاد وثمود ‏.‏

وقال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ قال أبو عمرو‏:‏ وبار بالدهناء، بلاد بها إبل حوشية، وبها نخلٌ كثيرٌ لا يأبره أحدٌ ولا يجده؛ وزعم أن رجلاً وقع إلى تلك الأرض، فإذا تلك الإبل ترد عيناً وتأكل من ذلك التمر، فركب فحلاً منها ووجهه قبل أهله، فاتبعته تلك الإبل الحوشية فذهب إلى أهله‏.‏

وقال الخليل‏:‏ وبار كانت محلة عاد، وهي بين اليمن ورمال يبرين؛ فلما أهلك الله عاداً ورث محلتهم الجن، فلا يتقاربها أحدٌ من الناس؛ وهي الأرض التي ذكرها الله تعالى في قوله‏:‏ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏.‏ أمدكم بأنعامٍ وبنين، وجناتٍ وعيون ‏.‏

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‏:‏ كان من شأن دعيميص الرمل العبدي، الذي يضرب به المثل فيقال‏:‏ أهدى من دعيميص الرمل، إنه لم يكن أحدٌ دخل أرض وبار غيره، فوقف بالموسم بعد انصرافه من وبار، وجعل ينشد‏:‏

من يعطني تسعاً وتسعين نعجةً *** هجاناً وأدماً أهده لوبار

فلم يجبه أحدٌ من أهل الموسم إلا رجل من مهرة، فإنه أعطاه ما سأل؛ وتحمل معه في جماعة من قومه بأهلهم وأموالهم؛ فلما توسطوا الرمل طمست الجن بصر دعيميص، واعترته الصرفة فهلك هو ومن معه جميعاً‏.‏

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والعشرون بعد المائة

معاذ الإله أن تكون كظبيةٍ *** ولا دميةٍ ولا عقيلة ربرب

على أن أل في الله بدل من همزة إله، فلا يجمع بينهما إلا قليلاً‏:‏ كما في هذا البيت‏.‏

وهذا البيت من أبيات عشرة للبعيث بن حريث، أوردها أبو تمام في الحماسة‏.‏ وأولها‏:‏

خيالٌ لأم السلسبيل، ودونه *** مسيرة شهرٍ للبريد المذبب

فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً، *** فرد بتأهيلٍ وسهلٍ ومرحب

معاذ الإله أن تكون كظبيةٍ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ولكنها زادت على الحسن كله *** كمالاً، ومن طيبٍ على كل طيب

خيال‏:‏ مبتدأ خبره محذوف؛ أي‏:‏ خيالها أتاني وبيني وبينها مسيرة شهر للبريد المسرع، والخيال يذكر ويؤنث، ونكره لأنه رآه على هيئات مختلفة، فاعتقد أنه عدة خيالات قصد إلى واحد منها‏.‏ وأم السلسبيل‏:‏ امرأة، ولو كان في شعر مولد لجاز أن يعنى بالسلسبيل الريق، على وجه التشبيه‏.‏ والبريد‏:‏ الدابة المركوبة، معرب دم بريده، أي‏:‏ محذوفة الذنب، فإن الرسل كانت تركب البغال المحذوفة الذنب، ويطلق على الرسول أيضاً، لركوبه إياها‏.‏ والمذبب‏:‏ اسم فاعل، من ذبب في سيره، أي‏:‏ جد وأسرع، بذال معجمة والباء الأولى مشددة‏.‏ وروي‏:‏ المدئب من دأب يدأب بالهمزة‏:‏ إذا وجد التعب‏.‏ وهاتان الروايتان للآمدي في المؤتلف والمختلف ‏.‏

وروى شراح الحماسة‏:‏ المذبذب قال التبريزي‏:‏ هو الذي لا يستقر، وقال الطبرسي‏:‏ المذبذب والمذبب، الأصل فيهما يرجع إلى الطرد والاستعجال، والمسرع المستعجل يتذبذب، أي‏:‏ يضطرب‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت له - وروي لها - أي‏:‏ للخيال فيهما‏.‏ وأهلاً منصوب بفعل مضمر، أي‏:‏ أتيت أهلا لا غرباء‏.‏ والتأهيل‏:‏ مصدر أهلته‏:‏ إذا قلت له أهلاً‏.‏ وقوله‏:‏ معاذ الإله منصوب على المصدر، أي‏:‏ أعوذ بالله معاذاً‏.‏ وكأنه أنف وتبرأ من أن تكون هذه المرأة في الحسن بحيث تشبه بالظبية، والصورة المنقوشة، وبكريمة من بقر الوحش‏.‏ والدمية بالضم‏:‏ الصورة من العاج ونحوه؛ قال أبو العلاء‏:‏ سميت دمية لأنها كانت أولاً تصور بالحمرة، فكأنها أخذت من الدم‏.‏ والعطف من قبيل‏:‏ أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ، لما اشتمل المتقدم على معنى النفي، كأنه قال‏:‏ لا أشبهها بظبية ولا دمية؛ تعوذ بالله من تشبيه خليلته بأحد هذه الثلاثة كما يشبه الشعراء بها‏.‏ وعقيلة كل شيء‏:‏ أكرمه‏.‏ والربرب‏:‏ القطيع من بقر الوحش‏.‏

وقوله‏:‏ ولكنها زادت‏.‏‏.‏ إلخ ، بين به لم أنكر تشبيهها بغيرها‏.‏ وكمال‏:‏ تمييز، أي‏:‏ يزيد حسنها على كل حسن كمالاً؛ لأنه لا حسن إلا وفيه نقص، سوى حسنها؛ وكذلك كل طيب يتخلله حطيطة إلا طيبها‏.‏ وقوله‏:‏ من طيب قال التبريزي‏:‏ أي‏:‏ وزادت من طيبها على كل طيب طيباً‏.‏ وقال الطبرسي‏:‏ ولما كان كمالاً تمييزاً، دخله معنى من، فحسن أن يقول‏:‏ ومن طيب‏.‏ ورأيت في بعض شروح الحماسة‏:‏ أراد‏:‏ زادت بحسنها كمالاً على كل حسن؛ فحذف للعلم به، لأنك لا تقول للحسن‏:‏ هو أكمل من الحسن، لاختلاف الجنس، لأن الحسن عرض والحسن جسم‏.‏ والبعيث قال الآمدي‏:‏ هو البعيث من حريث بن جابر بن سري بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة بن لجيم‏.‏‏.‏ شاعر محسن وهو قائل‏:‏

خيالٌ لأم السلسبيل ودونها‏.‏‏.‏ البيت‏.‏

وهي أبيات جياد مختارة‏.‏ والبعيث بفتح الموحدة وكسر العين المهملة، قال ابن جني‏:‏ هو اسم مرتجل للعلمية؛ ويمكن أن يكون صفة منقولة فيكون فعيل في معنى مفعول ‏.‏ وقال أبو رياش‏:‏ ابن حريث هذا، ليس بصاحب القبة بصفين ‏.‏ وحريث بالتصغير وسري وعبيد كذلك‏.‏ والدول ، بضم الدال وسكون الواو‏.‏ ولجيم، قال أبو العلاء‏:‏ يجوز أن يكون تصغير ترخيم لملجم ولجام، وتصغير لجم، بضم ففتح، واللجم‏:‏ دويبة يتشاءم بها، وتوصف بالعطاس، قال الراجز‏:‏

أغدو فلا أحاذر الشكيس *** ولا أخاف اللجم العطوسا

وذكر الآمدي شاعرين آخرين يقال لهما البعيث أحدهما المجاشعي؛ واسمه خداش، وهذا شاعر مشهور دخل بين جرير وغسان السليطي وأعاد غسان، فنشب الهجاء بينه وبين جرير والفرزدق وسقط البعيث‏.‏

والثاني‏:‏ البعيث التغلبي، بمثناة فمعجمة، وهو بعيث بن رزام، وكان يهاجي زرعة بن عبد الرحمن‏.‏ وقال القطامي‏:‏

إن رزاماً غرها قرزامه *** قلف على أزبابها كمامها

القرزام‏:‏ الشاعر الدون، يقال هو يقرزم الشعر‏.‏ وإنما يعني بعيث بني رزام‏.‏ ومنه يعلم أن بعيث بني رزام إسلامي‏.‏

وأنشد بعده وهو

الشاهد السابع والعشرون بعد المائة

إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا

على أن اجتماع أل والهمزة في الأناس لا يكون إلا في الشعر، والقياس الناس، فإن أصله أناس، فحذفت الهمزة وعوض عنها أل، إلا أنها ليست لازمة، إذ يقال في السعة ناس‏.‏

أقول‏:‏ هذا يدل على أن أل في البيت ليست عوضاً من الهمزة، إذ لو كانت عوضاً لم يجز أن يقال ناس‏:‏ من غير همزة ولا أل، إذ لا يجوز الخلو عن العوض والمعوض عنه‏.‏ وما ذكره - من كونه عوضاً من الهمزة - هو مذهب سيبويه، وتبعه الزمخشري والقاضي وغيرهما‏.‏

وذهب أبو علي الفارسي في الأغفال‏:‏ وهو كتاب ذكر فيه ما أغفله شيخه أبو إسحاق الزجاج ‏.‏ أن أل ليست عوضاً من همزة أناس‏.‏

وقد عزا إليه السيد في حاشية الكشاف خلاف هذا فقال‏:‏ وتوهم أبو علي في الأغفال أن اللام في الناس أيضاً عوض، إذ لا يجتمعان في الأناس إلا ضرورة‏.‏ ورد بكثرة استعمال ناس منكراً دون إله، وبامتناع يا الناس دون يا الله ‏.‏ انتهى‏.‏

فقد انعكس النقل عليه من هذا الكتاب‏!‏ مع أنه قد رد عليه ابن خالويه فيما كتبه على الأغفال، وتعقبه أبو علي فيما كتبه ثانياً وهو رد على ابن خالويه، وسماه نقض الهاذور ، وبسط الكلام فيه كل البسط‏.‏ وأنا أورده مختصراً لتقف على حقيقة الحال‏.‏ وهذه عبارته‏:‏ ثم ذكر هذراً ليس من حكمه أن نتشاغل به، وإن كان جميع ما هذر به غير خارج من هذا الحكم‏.‏‏.‏ ثم حكى قولنا وهو‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ وليس قد حذفت الهمزة من الناس كما حذفت من هذا الاسم حذفاً‏!‏ فهل تقول‏:‏ إنها عوض منها كما أن اللام عوض من الهمزة المحزوفة في اسم الله‏.‏‏.‏ إلى آخر الفصل‏.‏

فقال المعترض‏:‏ أما ادعاؤه أن أل ليست عوضاً من الهمزة في أناس كما كانت في هذا الاسم فليس على ما ذكر‏.‏‏.‏ فلم يزد على الإنكار والادعاء؛ لتركنا طريقة سيبويه وحمل كلامه المطلق على المقيد المخصوص؛ وتظني المتعرض أن الهمزة سقطت منهما على حد واحد، وأن أل في الناس عوض من حذف الهمزة كما كان ذلك في اسم الله، تظن على عكس ما الأمر عليه‏:‏ وذلك أن قول سيبويه‏:‏ ومثل ذلك أناس، فإذا أدخلت الألف واللام عليه قلت الناس ليس يدل قوله‏:‏ ومثل ذلك أناس، أن التماثل بينهما يقع على جميع ما الاسمان عليه؛ إنما يدل على أن المماثلة تقع على شيء واحد‏.‏ ألا ترى أن مثلاً إذا أضيفت إلى معرفة جاز أن يوصف به النكرة‏؟‏ لأن ما يتشابهان به كثير، وإنما يتشابهان في شيء من أشياء‏.‏ ومن ثم كان نكرة، وكان هذا الأغلب‏.‏

ولو كان التشابه يقع بينهما في كل ما يمكن أن يتشابها به لكان مخصوصاً غير مبهم، ومحصوراً غير شائع‏.‏ وفي أن الأمر بخلاف هذا، دلالة على أن الظاهر من كلام سيبويه ليس على ما قدره هذا المعترض، يدل على ذلك ما ذهب إليه أهل العلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم‏}‏ فقال قائلون‏:‏ جزاء مثل ما قتل في القيمة، وقال قائلون‏:‏ جزاءٌ مثله في الصورة، ولم يذهب أحد - فيما علمناه - إلى أن المعنى جزاءٌ مثل ما قتل في القيمة والصورة جميعاً‏.‏

فكذلك قول سيبويه‏:‏ ومثل ذلك أناس ، إنما يريد مثله في حذف الفاء في ظاهر الأمر لو لم تدل دلالة على أن قولهم الناس، ليس كاسم الله‏:‏ في كون الألف واللام عوضاً من الهمزة المحذوفة‏.‏ فكيف وقد قامت الأدلة على أن قولهم الناس‏:‏ قد فارق ما عليه هذا الاسم في باب العوض - على ما سنذكره إن شاء الله - وإذا كان الأمر في إضافة مثل ما قلنا، تبين أن هذا المعترض لم يعرف قول سيبويه‏.‏ وليس في لفظ سيبويه شيء يدل على أن الهمزة في أناس مثل الهمزة في الاسم الآخر‏:‏ في أنه عوض منها شيء كما عوض هناك‏.‏ ويبين ذلك‏:‏ أنه حيث أراد أن يرى النظائر في العوض أفرد ذكر الاسم فقال‏:‏ وهي في إله بمنزلة شيء غير منفصل من الكلمة، كما كانت الميم في اللهم غير منفصلة، وكما كانت التاء في الجحاجحة والألف في يمان وأختيها بدلاً من الياء‏.‏ فأما الدلالة على أن حرف التعريف ليس بعوض، فهي أن الألف واللام تدخل مع الهمزة في نحو ما أنشده أبو عثمان عن أبي عمرو‏:‏

إن المنايا يطلع *** ن على الأناس الآمنينا

وأن الأناس وأناس في المعنى واحد، إلا فيما أحدث حرف التعريف من التعريف‏.‏ وقد جاء في كلامهم ناسٌ وأناس‏.‏ فمن يقول أناس يقول الأناس، ومن يقول ناس يقول الناس‏.‏ وأنشد محمد بن يزيد‏:‏

وناسٌ من سراة بني سليمٍ *** وناسٌ من بني سعد بن بكر

ومما يغلب أن هذه الهمزة لا يلزم أن يكون منها عوض، أن من يرد الأصول المحذوفة في التحقير ومن لا يرد، اتفقوا عندنا جميعاً على أن حقروا أناساً‏:‏ نويسا‏.‏ فدل ترك رد الأصل في التحقير ممن يرد، على أن هذا الحذف قد صار عندهم كالحذف اللازم في أكثر الأمر، نحو‏:‏ حاش لله، ونحو لا أدر‏.‏ وما كان من الحذف عندهم هكذا، يبعد أن يعوض منه، وقد كان أولى من التعويض رد ما هو منه إليه، فلما لم يقولوا أنيس عند سيبويه، في تحقير ناس، ولا عند يونس وأبي عثمان، كان أن لا يعوض منه أولى‏.‏

ومما يبين حسن الحذف منه وسهولته‏:‏ أنه جمع، والجموع قد تخفف بما لا يخفف الآحاد به، ألا ترى أنهم قالوا‏:‏ عصي ودلي، فأجمعوا على القلب في هذا النحو‏!‏ وكذلك نحو بيضٍ، فكما خففوا هذا النحو من الجمع، كذلك قولهم أناس - بالحذف - منه‏.‏‏.‏ ويدلك على أنه جمع‏:‏ أنهم قالوا في الإضافة إلى أناس‏:‏ إنساني، كما قالوا في الإضافة إلى الجميع‏:‏ جمعي‏.‏ فعلمت أن أناساً في جمع إنسان، كتؤام في جمع توأم، وبراء في جمع بريء، ورخال وظؤار وثناء، ونحو ذلك‏.‏ فكما أجروه مجرى الجمع في هذا، كذلك أجروه مجراه في الحذف منه؛ كما خففوا ما ذكرنا بالقلب فيه‏.‏

ومما يغلب أن قولنا الناس على الحذاء الذي ذكرنا من التخفيف بالحذف، أن ما في التنزيل من هذا النحو عليه، نحو‏:‏ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ونحو‏:‏ أعوذ برب الناس‏.‏ ملك الناس فهذا إنما أدغم لام المعنى في النون على حد ما أدغم في‏:‏ النشر، والنشز، والنعمان؛ لا على حد تقدير الهمزة فيه وتخفيفها‏.‏

ألا ترى أنه لو كان على تقدير أناس لم يدغم‏!‏ لأن الحرفين ليسا مثلين كما كانا مثلين في الاسم الآخر، إنما هما متقاربان، والأكثر في المتقاربين إذا تحرك الأول منهما فالأقيس أن لا يدغم الأول في الثاني كما يدغم المثلان‏.‏

وذلك‏:‏ أن مباينة الحرفين في المخرج إذا انضم إليهما الحركة قويا على منع الإدغام، فامتنع كما يمتنع لحجز الحرف بينهما؛ وليس كذلك المثلان إذا حجزت بينهما الحركة، لأن الحركة أقل وأيسر في الصوت من الحرف، فلم يبلغ من قوتها أن تحجز بين المثلين؛ ويمنع الإدغام كما يمنع منه في أكثر الأمر إذا انضم إلى الحركة الاختلاف في مخرجي الحرف‏.‏

وأما قول صاحب الهاذور‏:‏ والدليل على صحة ذلك، وأن هذا هو الذي ذهب إليه سيبويه وإن كان عنده عوضاً في هذا الموضع أيضاً‏:‏ أنه تعاطى الفرق بينهما‏.‏‏.‏ فتعاطيه الفرق بينهما لا يدل أن كان تعاطى على اتفاقهما عنده، وليس لنسخه كلام سيبويه في جملة الهذر فائدة، ولا معنى لاحتجاج من احتج بشيء لا يعرفه ولا يفهمه، وإنما وكده في غالب رأينا بتسويد الورق وإفساده‏.‏

وأما تفسير المعترض لقولنا إنهما لو كانتا ههنا عوضاً كما هما في هذا الاسم لفعل بهما ما فعل بالهمزة في اسم الله‏.‏ فإن عني به أنهما كانتا تلزمان ثم كانت الألف تنقطع في النداء، فليس على ما قدر، ولكن المراد به‏:‏ أن الألف واللام في الاسمين لو كانا على حد واحد، لكان الناس إذا سقط منه حرف التعريف - لا يدل على ما كان يدل عليه والحرف لاحقٌ به، كما أنه في اسم الله إذا خرج منه لا يدل على ما يدل عليه وهو فيه‏.‏

وأما قوله‏:‏ حاكياً لكلامنا‏:‏ فأما استدلاله على أنهما في الناس غير عوض بقول الشاعر‏:‏ على الأناس الآمنينا وأنه لو كان عوضاً لم يكن ليجتمع مع المعوض منه، فهذا يلزمه بعينه فيما ذهب إليه في اسم الله‏.‏ وذلك أنه يقال له‏:‏ ألست تقول الإله، فتدخل الألف واللام على إله ولا تحذف الهمزة مع دخولها‏.‏‏.‏ إلى آخر الهذر‏.‏

أقول‏:‏ ليس الأمر كما تظناه هذا العامي المريض، لما ذكر سعيد عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سميا‏}‏‏:‏ لا سمي لله ولا عدل له، كل خلقه مقر له ومعترف له أنه خالقه‏.‏

ثم يقر‏:‏ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فالاسم الذي لا سمي للقديم سبحانه وتعالى فيه، لا يخلوا من أن يكون الله والرحمن، فلا يجوز أن يكون الرحمن، لأنه وإن كان اسماً من أسماء الله فقد تسمي به، وقد قالوا لمسيلمة‏:‏ رحمان، وقالوا أيضاً فيه‏:‏ رحمان اليمامة، وذكر بعض الرواة‏:‏ أنهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش‏:‏ أتدرون ما الرحمن‏؟‏ هو كاهن اليمامة‏!‏ فهذا يدل على أنهم كانوا لا يحظرون التسمية به‏.‏ فإذا كان قد سمي به، ثبت أن الاسم الذي لا سمي له فيه هو الله وهذا الاسم إنما يكون بهذا الوصف إذا لزمه الألف واللام، فأما إذا أخرجا منه وألحق الهمزة فقيل‏:‏ إله والإله، فليس على حد قولهم‏:‏ الله في الاستعمال ولا في المعنى، ألا ترى أنه إذا قال إله صار مشتركاً غير مخصوص وجاز فيه الجمع‏!‏ وأما في المعنى‏:‏ فإنه يعمل على الفعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله‏}‏ الظرف يتعلق بما في إله من معنى الفعل، وإذا دخلته الألف واللام لم يعمل هذا الحد لخروجه عن حد المصادر‏.‏ فإن قلت‏:‏ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم فإن الظرف لا يتعلق بالاسم على حد ما تعلق بإله إلا على حد ما أذكره لك‏:‏ وهو أن الاسم لما عرف منه معنى التدبير للأشياء والحفظ لها وتصورها في نحو‏:‏ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا صار إذا ذكر كأنه قد ذكر المدبر والحافظ المثبت، فيجوز أن يتعلق الظرف بهذا المعنى الذي دل عليه الاسم بعد أن صار مخصوصاً، وفي أحكام الأسماء الأعلام التي لا معنى فعلٍ فيها، فبهذا يتعلق الظرف‏.‏

وعلى هذا تقول‏:‏ هو حاتمٌ جواداً، وزهيرٌ شاعراً، فتعلق الحال بما دخل في هذه الأسماء من معنى الفعل، لاشتهارها بهذه المعاني، ولولا ذلك لم يجز‏.‏ فإذا كان كذلك، علمت أن هذا الاسم إذا أخرجت منه الألف واللام فقلت إله لم يكن على حد قولنا الله، وليس كذلك الناس والأناس، لأن المعنى في كلا الحالين فيه واحد، ألا ترى أنه اسم العين لا مناسبة بينه وبين الفعل‏!‏ وهذا الذي عناه سيبويه عندنا بقوله‏:‏ وذلك أنه من قبل أنه اسم يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة اللف واللام اللتين من نفس الحرف‏.‏

وليس في الناس والأناس كذلك، ألا ترى أنك إذا أخرجتهما من الاسم دل على أن الأعيان التي يدل عليها حسبما يدل عليه وهما فيه، وليس في اسم الله كذلك‏!‏ فإذا كان الأمر فيه على ما ذكرنا، وضح الفصل بين الاسمين إذا أخرج منهما الألف واللام‏.‏ مما وصفنا لم يكن إخراج الألف واللام من اسم الله سبحانه كإخراجه من الناس حذو القذة بالقذة‏.‏ انتهى كلام أبي علي‏.‏ وقد حذفنا منه مقدار ما أثبتنا، وسقنا هذا الكلام بطوله لكثرة فوائده‏.‏

واعلم أنهم اختلفوا في ناس فقال الجمهور‏:‏ أصله أناس، فقيل‏:‏ جمع إنسان، وقيل اسم جمع له‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو اسم تام وعينه واو، من ناس ينوس إذا تحرك‏.‏ وعلى هذا فإطلاقه على الجن واضح، قال في القاموس‏:‏ والناس يكون من الإنس والجن إلا أن قوله أصله أناس، مع جعله من مادة نوس غير صحيح، وصرح به جماعة من أهل اللغة، فإن العرب تقول‏:‏ ناسٌ من الجن، وفي الحديث‏:‏ جاء قومٌ فوقفوا‏.‏ فقيل من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ ناس من الجن ولذا جوز بعضهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الجنة والناس‏}‏ أن يكون بياناً للناس‏.‏ وقيل أصله نسيٌ من النسيان، فقدمت اللام على العين وقلبت ألفاً، فصار ناساً‏.‏

وهذا البيت من أبيات لذي جدن الحميري الملك؛ كما في كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني، قال‏:‏ عاش ثلثمائة سنة، وقال في ذلك‏:‏

لكل جنبٍ اجتنى مضطجع *** والموت لا ينفع منه الجزع

اليوم تجزون بأعمالكم *** كل امرئٍ يحصد مما زرع

لو كان شيءٌ مفلتاً حتفه *** أفلت منه في الجبال الصدع

وقال أيضاً‏:‏

يا اجتني مهلاً ذرين *** أفي سفاءٍ تعذلينا

يا اجتني تستعتبين *** فلا وربك تعتبينا

يومٌ يغير ذا النعي *** م وتارةً يشفي الحزينا

إن المنايا يطلع *** ن على الأناس الآمنينا

فيدعنهم شتى، وقد *** كانوا جميعاً ففرينا

فقوله‏:‏ اجتنى ، اسم امرأة، منقول من الفعل الماضي من اجتنى الثمرة، وهو منادى بحرف النداء المحذوف‏.‏ ومفلت‏:‏ اسم فاعل من أفلته‏:‏ إذا أطلقه‏.‏ والصدع بفتح الصاد والدال‏:‏ الوعل‏.‏ والسفاء ، بكسر السين المهملة‏:‏ مصدر سافاه مسافاة وسفاء‏:‏ إذا سافهه‏.‏ واستعتب‏:‏ طلب الإعتاب، والإعتاب‏:‏ مصدر أعتبه‏:‏ إذا أزال عتابه وشكواه، فالهمزة للسلب‏.‏ وعتب عليه من باب ضرب وقتل‏:‏ إذا لامه في تسخط‏.‏ والعتاب‏:‏ مصدر عاتبه‏.‏

وقوله‏:‏ تعتبينا هو جواب القسم بتقدير لا النافية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تا لله تفتؤ تذكر يوسف‏}‏ وهذا بالبناء للمجهول‏.‏

وقوله‏:‏ يومٌ ، أي‏:‏ للدهر يومٌ يغير صاحب النعيم نعيمه‏.‏ ويشفى بالفاء‏.‏ والمناي‏:‏ جمع منية، وهو الموت‏.‏ ويطلعن‏:‏ يشرفن ويقربن‏.‏ والآمنين‏:‏ جمع آمن‏.‏ بمعنى مطمئن، يقال‏:‏ أمن البلد‏:‏ إذا اطمأن‏.‏

وقوله‏:‏ فيدعنهم ، روي بدله‏:‏ فيذرنهم ‏.‏ وشتى‏:‏ متفرقين، وهو جمع شتيت‏.‏ ووافرين‏:‏ جمع وافر، من وفر الشيء من باب وعد وفوراً‏:‏ تم وكمل‏.‏

وزعم بعضهم، فيما كتبه على تفسير البيضاوي‏:‏ أن بيت الشاهد من قصيدة لعبيد بن الأبرص، قال‏:‏ وأولها كما في الحماسة البصرية‏:‏

نحن الألى فاجمع جمو *** عك ثم وجههم إلينا

وفيه نظر من وجهيين‏:‏ الأول أن هذا البيت لم يذكره صاحب الحماسة في تلك القصيدة؛ والثاني‏:‏ أن أول القصيدة إنما هو‏:‏

يا ذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالاً وحينا

والبيت الذي أورده من أواخرها كما تقدم‏.‏

وذو جدن ، بفتح الجيم والدال‏:‏ اسم مرتجل، وهو من أذواء اليمن‏.‏ والأذواء بعضهم ملوك وبعضهم أقيال، والقيل دون الملك، قال في الصحاح‏:‏ والقيل‏:‏ ملك من ملوك حمير دون الملك الأعظم والمرأة قيلة‏.‏ وأصله قيل بالتشديد، كأنه الذي له قول، أي‏:‏ ينفذ قوله، والجمع أقوال وأقيال أيضاً، ومن جمعه على أقيال لم يجعل الواحد منه مشدداً‏.‏ والمقول بالكسر‏:‏ القيل أيضاً بلغة أهل اليمن، والجمع المقاول ‏.‏

ومن الأذواء الأوائل أبرهة ذو المنار ، والمنار مفعل من النور وابنه عمرو ذو الأذعار بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة، زعموا أنه حمل معه إلى اليمن نسناساً فذعر الناس منه‏.‏ وصحفه ابن الشجري في أماليه بالدال المهملة فقال‏:‏ والأدعار جمع دعر - أي‏:‏ بفتح فكسر - وهو العود الكثير الدخان‏.‏ وأنكر عليه في بغداد فأصر عليه‏.‏‏.‏ وبعد ذي الأذعار بدهر ذو معاهر واسمه حسان‏.‏ ومعاهر من العهر وهو الفجور‏.‏ وبعده ذو رعين الأكبر واسمه يريم - ورعين‏:‏ اسم حصن كان له؛ وهو في الأصل تصغير رعن، وهو أنف الجبل‏.‏ ويريم‏:‏ من قولك رام من مكانه، أي‏:‏ برح وانفصل منه‏.‏ وذو رعين الأصغر واسمه عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللامين‏.‏ وبعده بدهر ذو شناتر واسمه ينوف؛ من ناف الشيء ينوف‏:‏ إذا طال وارتفع‏.‏ والشناتر بفتح الشين المعجمة والنون‏:‏ الأصابع في لغة اليمن‏.‏

ومنهم ذو القرنين واسمه الصعب‏.‏ وذو غيمان وهو من الغيم الذي هو العطش وحرارة الجوف؛ بالغين المعجمة‏.‏ وذو أصبح بفتح الهمزة، وإليه نسبت السياط الأصبحية‏.‏ وذو سحر بفتح المهملتين وذو شعبان ‏.‏‏.‏ وذو فائش واسمه سلامة‏:‏ وفائش‏:‏ من الفياش وهو المفاخرة وذو حمام والحمام بضم المهملة‏:‏ حمى الإبل‏.‏ وذو ترخم بضم المثناة والخاء المعجمة، وفتحها وسكون الراء‏:‏ من قولهم‏:‏ ما أدري أي ترخم هو‏:‏ أي‏:‏ أي الناس‏.‏ وترخم قبيلة باليمن أيضاً‏.‏ وذو يحصب من قولهم حصبة يحصبه‏:‏ إذا رماه بالحصباء، وهي الحصى الصغار‏.‏ وذو عسيم بفتح العين وكسر السين المهملتين، من العسم بفتحتين وهو يبس في المرفق، ومن العسم بالسكون وهو الطمع‏.‏ وذو قثاث بضم القاف وتخفيف المثلثتين من قولهم قث يقث‏:‏ إذا جمع‏.‏ وذو حوال بالضم واسمه عامر‏.‏ وحوال من المحاولة وهي الطلب‏.‏ وذو مهدم وهو مفعل بالكسر، من هدمت البيت‏.‏

وذو الجناح واسمه شمر‏.‏‏.‏ وذو أنس والأنس بفتحتين‏:‏ الجماعة من الناس‏.‏ وذو سحيم وهو تصغير أسحم وهو الشديد السواد‏.‏ وذو الكباس بضم الكاف وآخره مهملة، وهو الرجل العظيم الرأس‏.‏ وذو حفار بالضم من قولك حفر البئر‏.‏ وذو نواس ، واسمه زرعة‏.‏ ونواس بالضم من النوس، وهو تذبذب الشيء وشدة حركته‏.‏ وسمي بذلك لضفرتين كانتا تنوسان على عاتقه، وكان غلاماً حسناً من أبناء الملوك، أراده على نفسه ذو الشناتر، فوجأه بخنجر كان قد أعده له فقتله، ورضيته حمير لنفسها لما أراحها من ذي الشناتر‏.‏

وذو نواس هو صاحب الأخدود الذي ذكره الله عز وجل، وكان يهودياً فخد الأخدود لقومٍ من أهل نجران تنصروا على يد رجل من قبل آل جفنة دعاهم إلى اليهودية فأبوا فحرقهم، ثم ظهرت الحبشة على اليمن فحاربوا ذا نواس أشد حرب، فلما أيقن بالهلاك اعترض البحر بفرسه فكان آخر العهد به‏.‏

ومنهم ذو الكلاع الأكبر وذو الكلاع الأصغر وأدرك الأصغر الإسلام، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع جرير بن عبد الله البجلي فأسلم، وأعتق يوم أسلم أربعة آلاف عبد؛ وهاجر بقومه في أيام أبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة ثم سكنوا حمص‏.‏

واشتقاق الكلاع، بضم الكاف وفتحها، من الكلع بالتحريك، وهو شقاقٌ ووسخ يكون في القدم؛ يقال‏:‏ منه كلعت رجله‏.‏

ومنهم ذو عثكلان بفتح العين وسكون المثلثة، وهو اسم مرتجل‏.‏ وذو ثعلبان بالضم وهو ذكر الثعالب‏.‏ وذو زهران ، وذو مكارب أي‏:‏ ذو مفاصل شداد، جمع مكرب كمكرم‏.‏ وذو مناخ بالضم وكان نزل ببعلبك‏.‏ وذو ظليم واسمه حوشب، وهو العظيم البطن‏.‏ والظليم‏:‏ ذكر النعام‏.‏ وشهد ذو ظليم صفين مع معاوية رضي الله عنه‏.‏

ومنهم ذو يزن ملك اليمن بعد ذي نواس فهزمته الحبش، واقتحم البحر فهلك‏.‏ ويزن‏:‏ اسم مرتجل، وهو غير منصرف، لأن أصله يزأن على وزن يسأل؛ فخففوا همزته فصار وزنه يفل؛ ومنهم من رد عينه في النسب فقال رمح يزأني‏:‏ وقيل إن أصله من وزن يزن، فحذفت الواو ثم أبدلت الكسرة فتحة‏.‏

واسم ذي يزن‏:‏ عامر بن أسلم بن زيد بن غوث الحميري والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو